قُتل "جسّاس"
أجل قُتل "جسّاس"..
هاتان الكلمتان تغنّى بهن البعض وصُدم وانهار أخرون..
هاتان الكلمتان غزت مَسامع الجميع!
الجميع؟
عُذرًا لا تسئ الفهم؛ فالقصد ما تبقى من هذه القبيلة التي لم يُرحم بها رجل ولا عجوزٌ ولا رضيع.
بالطبع أنتَ تتساءل أي قبيلة؟
ومن المُتحدث ومن الغائب وحتى لِمَ أنتَ المُخاطب!
اعتقد أنّك تعرف هذه القصة جيدًا أيّها القارئ، مهما مرّ عليها من العصور واندثار أهلها إلى أنها لازالت تُذكر في العديد من البيوت حتى الآن ومنذ ألاف السنين.. وأعتقد أيضًا أنّك في طرف الحلفِ المُضاد، في صفّ الزير وكُليب… لرُبّما أيضًا فهمتَ من بعض حُروفي من أنا؟
وكم يسُرّني أن تخيب توقعاتك..
ولكنني هذه المرة كاتبٌ وراء الحائط، كاتب يعتقد الكثيرون أنه سبب الحرب… فلتأتِ معي لأروِ لكَ حكاية مغايرة عن التي سمعتها من قبل، حكاية لم يتغنَ بها الشُعراء ولم يذكرها شعر، حكاية لم تُزيّفها الأقاويل، حكاية لم ترويها الأساطير..دعني أسردها لكَ الآن..
وإن كُنت لازلت تتساءل من أكون ؟
فأنا التي أخبروكَ أنني دلعتَ حرب البسوس..
قبل أن أروي لكَ حكايتي التي يطوّقني الحنين للعودةِ إليها في يومٍ ما؛ لأثبت للكثيرين أنني بريئة من الحرب براءة الذئبِ من دمِ ابن يعقوب..
سأجيبكم عن سؤالٍ قبل أن نصل إليهِ في لُبّ الحكاية.. أولم أمت؟
بلى ولكن ليطمئن قلبي ويصل صوتي وحكايتي.. بالمناسبةِ!
أنا أوّل الراحلين في هذه الحرب..
يُقال بأنّ الحرب نشبت بقتلي، بالرغم من أنني لا أفقه في الحرب شيئًا ولكن على الأقل أعلم أن لِكل حربٍ قواعد.. فكيف يُقتل من لا حيلة لهُ في بلادٍ غير بلادهِ وهو لم يتحدث حتى؟
أنني أروي لكَ القصة الآن من مكان بعيد، ربّما تحت التراب، أو ربما جثة متعفنة بين الكلاب… أو ربما رمادًا.
قرابة أربعمائة سنة قبل الهجرة، في وسط صحراء نجد، في يومٍ تكاد تلتهمك بهِ الشمس العمودية من شدة وضوحها، تصطحبني "البسوس"لزيارة أختها "أم جسّاس"..
البسوس كانت تُحدثني طوال الطريق عن وُعورة الحياة، وعن آلامها، والذّل الذي عاشته طوال سنواتٍ،
ربّما حان الوقت لينتهي اليوم، وأنّها لن تعود قبل أن تنتقم من كُليب وتحرق قلب زوجتهِ ابنة أختها"الجليلة" ولأنه لمن المُحزن أن أكون أداتها الوحيدة للإنتقام، ولكنني سأفعل ما تُريده بكُل الرضى والقبول فهي خير راعيةٍ لي….
البسوس اسمها، لا تتعجب فالجميع يرفع حاجبيهِ كما فعلتَ الآن وأكثر قليلًا، كيف لفتاةٍ رقيقة كهي أن تتصف بها الاسم القبيح، والذي يعايرها بهِ كل من مرّ بها ولا سيما ابنة أختها "الجليلة" لطالما كانت دائمًا تنعتها بالخالةِ البؤس والخالة الشؤم واليأس… وهل لكَ طاقة لأزدك من شعري بيتًا ؟
الجليلة كانت تمنع البسوسَ من زيارتها في بيتها بعد زواجها مدعية أنّها ستجلب لها التعاسة داخل أسوارِ قصرها.. كم أنتِ قاسيةٌ يا جليلة!
وكم هو محزنٌ معرفة هذا مؤخرًا!
أمّا عن كُليب فقد قتل شخصًا كان بمثابة دنيتها الوردية، أوّل شخص أعجب بالبسوس دون أن يلتفت لبشاعة اسمها..
قتلهُ كُليب.
فلنلتف لسالم زِير النساء، فقد كانت البسوسُ، إحدى ضحايا مجالسهِ.
وصلنا لِمُبتغانا، المكان الذي من المفترض أن تربطني بهِ البسوس ولم تفعل، فتسللت لأراضي كُليب فقد زارني العطش ولم أرَ إلّا بعيرهِ، فأبى وطردني وعُدت للبسوسِ، فأعادتني حيث كُنت ولاختفاءِ العقل منّي عُدت لبعير كُليب، فزعم الجميع أن قيدي قد فُكّ بغير قصدٍ من البسوسِ، فقتلني كُليب!!
لمَ! لأنني ارتشفت بعضًا من ماءهِ..
وعندما وصل خبري البسوس، صرخت وولولت بأعلى صوتها ورثتني قائلةً" إذًا الحرب بدأت يا كليب!"
ذهبت إلى جسّاس وقالت " هل ترضى أن يُذلّ ضيفك، ويُقلل من هيبتهِ؟"
فانطلق جسّاس لقتلِ زوج أختهِ"كُليب".
فإن كان يخيلُ لكَ أن جسّاس قتل كُليب من أجلي، أي من أجل ناقة!… فكُفّ عن التخيل؛ خيالك السخيفِ عارًا عن الصحةِ.. قتله لأن البغض بين أبناءِ العمومةِ بلغ ذروته..
أمّا إن لم تقتنع من السبب الأول فإليكَ البقية!
استبدادُ كُليب لأبناء عمومتهِ بعد موت عمّه… زاد عن الحدّ المعقول.
وبالنهاية أي عاقلٍ يُصدق أنّ تنشب حربًا قرابة أربعين سنة لأجلي.
للتذكير: لأجل ناقة.
أتظن الأمر انتهى بمقتل كُليب؟
بلى فالآن أنتَ تضع قدمك في رحلة الأربعين عامًا من الحرب.
وصل الخبر لزير النساء سالم، وأعلن الحرب بعد أن كان لا يفارق مجالس النساء، فابتدأ بقتل كُل من مرّ به من قبيلة جسّاس وجميع من لهُ صلة بهم، فعل الزير مالم يُفعل قبلًا ، المعنى الحقيقي للقضاء على النسل كالجُرثومة، ومحيهِ من صفحاتِ التاريخِ وفعل..
فكما ترى لا يوجد اليومَ سوى ناقةٌ أو بالأصح روح ناقةٍ تكتب كلمات مُبعثرة.
" وقلبُ الزير قاسٍ لا يلينَ
وإن لان الحديد ما لان قلبي.
قال الزير هذهِ الكلمات ووفى بها ولكنه لم يهتم لقتل أي شخص كما كان متشوق لرؤية رأس جسّاس، فهو هدفه بعد أن عاهد جثة أخيه أنّ رأس جسّاس سيأتِ إليهِ، وفي النهاية لم يتلذذ الزير بهذا المنظر، لم يقر عيناه بسقوط رأس جساس بين أرجلهِ، لم يستمتع ودم جسّاس يترقرق بين العمامةِ واللحيةِ، نهايةً قُتل جساس على يد "الجرو"
ابن الجليلة..
كم هي مؤلمة هذه الحرب، وكم هي مؤلمة نظرات اليأس في عين البسوسِ، وكم من الممتع أن تتلاعب بالعقول، وكم هو جميل قلب السحر على الساحر، وكم هو مُحزن تصديقك لهذه الكلمات…
ملحوظه: هذه القصة ليست مستوحاة من قصة حقيقية، بل كُل ما أكتبه من وحي خيال الناقة، أقصد الكاتب بعد الساعة الثالثة فجرًا..
الخلاصة:
ليس كُل ضوءٍ هو مصدر النور، وأن ليسَ كُل ما تقوله الروايات والكتب وتغنى بهِ الشعراء صدقًا، وليس كل ما توارثناه جيلًا بعد جيلٍ صحيحًا .. قد يكون الكاتب ناقة مُحايدة لطرفٍ كأنا تمامًا.
للكاتبة أبرار عبدالسّلام.
تدقيق:سالمة الطاهر.
يمكنك عزيزي الزائر وضع تعليقاتك واقتراحاتك معنا فتفضل مشكورا على المتابعة